فاروق شويخ : كي ندخل إلى القصيدة لا بدّ من أنْ نقرع باب الثقافة

ابن بلدة المنصوري في صور جنوب لبنان، تشرّب الشاعر اللبناني فاروق شويخ الحضارة العريقة التي تختزتها هذه المنطقة منذ آلاف السنين ولا تزال منارة للثقافة والإبداع، وتأصلت فيه ثقافة جبل عامل، الذي سطر تاريخه رجال عظام كان لهم شأن في الحركة الثقافية والفكرية في لبنان والعالم العربي على مرّ قرون… فطغى ذلك كله عمقاً فكرياً وبعداً فلسفياً وإنسانياً في مجمل كتاباته، سواء النثرية أو الشعرية أو تلك التي تتعلق بالسيرة، مما أهله للفوز بجوائز عدة من بينها جائزة سعيد عقل وجائزة سعيد فياض للإبداع الشعري (2013).

يؤمن بالصورة الشعرية الصادقة إنما مع «تقميشها» بصياغة وبشكل يدفعان القارئ إلى التوقف عندها والتفكير ملياً في معانيها، فهو يقارب المعاناة الإنسانية والمشاعر من باب دراستها وتظهيرها بأسلوب لا يستسهل التعبير وفي الوقت نفسه لا يعقده ولا يصطنعه، تماماً كما يتعامل الصائغ مع جوهرة نادرة، يود إبراز جمالها مع الحفاظ على مسحة من الغموض حولها.

صاحب نتاج غني ومتنوع، يعمل الشاعر فاروق شويخ على الكتابة الدائمة مسترشداً بالقراءة الدائمة، ولا شك في أن هذه الميزة زادت إقبال الجمهور على نتاجه فنفد ديوانه الأخير «قناديل لحنين دائم» وصدرت منذ فترة الطبعة الثانية منه.
في ديوان «قناديل لحنين دائم» أيَّ حنين تقصد: إلى ماضٍ، إلى عائلة، إلى مرحلة عمرية، إلى مكان وزمان معيّنين؟

إنه الحنين إلى ماضيّ الأول؛ مرحلة الطفولة في القرية؛ مسقط الرأس الأم، الذي بدأ ينكث رماد الذاكرة اليوم، وبدأ يصحو شيئاً فشيئاً عبر اللغة التي تحاول استعادة حرارته ذاتها. الحنين يشكل خلفية أساسية لمجموعتي الأخيرة، ويُكوّن مجموعة من البُنى التي تنتشر في مساماتها مياه الشعر.

صدرت طبعة ثانية لـ «قناديل لحنين داكن»، في وقت تتكدّس كتب الشعر ولا تجد من يشتريها، فما هي المقومات التي يتمتع بها الديوان وأدت إلى الإقبال عليه؟

لا أظن أنّ في هذا الديوان بالتحديد فرادة معينة؛ إنما اقترن ببعض الأمسيات وبعض التسويق الإعلامي. وإن كان لا بدّ من رأي خاصّ، فأستميحكم عذراً، لأعزو جانباً من مباعث الإقبال عليه إلى إيجاز في النصوص الشعرية، وتصويب دقيق على الفكرة، وشيء من المعنى الجديد، ومحاولات حقيقية لبناء صوت خاص، والابتعاد من القوالب المكرورة؛ شكلاً ومضموناً.

مشاعر وانفعالات

برأيك ما الذي يصنع قصيدة: الفكرة أم البناء أم الشكل؟ مع العلم أنك تعتمد قصيدة التفعيلة.

برأيي، الفكرة عماد القصيدة وحجرها الأساس. ومنعاً للالتباس، يمكن أن تكون الفكرة في الموضوع المبتكَر وفي الابتعاد من الرصف اللغوي الهلامي. وقد تأتي وسائل إلهامها من الواقع اليوميّ، ومن تصرّفات الناس، والأشياء الجميلة وغير الجميلة. وأعتقد كقارئ متابع، وكشاعر قصيدة وزن، أنّ ديكورات بلاغية بليدة، وجنوحاً نحو التطريب الهزيل، واستعراضاً لغوياً وتباهياً عروضياً… يغزو بعض النصوص. مردُّ هذا إلى أننا نبتعد عن بناء نصّنا انطلاقاً من الفكرة التي هي ضالّتـنا جميعاً. من ناحية ثانية، لا بدّ من السعي إلى بعض التجريب على صعيد الشكل؛ في الموسيقى والتنويع الإيقاعي.

قصائدك احتفال طقوسي بالصوفية والمشاعر وتنبض بالانفعالات، فإلى أي مدى هي مرآة تعكس أفكارك وأحاسيسك ورؤيتك للحياة؟

ما تسمّينه بالطقس الصوفي، لا أدّعيه بحرفيّته فله شيوخه وشعراؤه الأدرى مني بأغواره. بأية حال، أقترب من هذا المُناخ؛ مناخ الكلام من الداخل بأدوات قابلة للكشف، ولغةٍ يكمن كثير من الشعرية في تجديد رموزها والتلاعب بمدلولاتها. وعلى هذا الجسر أُطلِق الأفكار، محدًداً رؤيةً خاصة للحياة، وبقناعةٍ تامّة أرى أنه حين تنتفي هذه الرؤية من عملٍ شعريّ فإنّ قيمة الشعر فيه تسقط في اللاجدوى والتقرير والمحاكاة والإنشاء.

تبدو التلقائية والعفوية بعيدتين عن قصائدك، فهل تقصد الهروب منهما وممارسة رقابة ذاتية على كتاباتك بحيث لا مجال فيها لغير المدروس والمُشكل بعناية؟

اشتهر شعراء كبار بكتابة القصيدة اليومية اللاذعة والعابرة برشاقة وجمال، ولا بدّ من هذه السِّمات في القصيدة، لكنني لا أستطيع تَصَوُّرَ أن يكون النصّ الشعري سهل المنال. ثمة متعة لدى تناول النصّ الشعري من خلف حجاب، لذا كي ندخل إلى القصيدة لا بدّ أنْ نقرع باب الثقافة.

إلى أي مدى تؤثر البيئة في صوغ نتاج الشاعر، لا سيما أنك من منطقة زاخرة بتاريخ عريق ورجال فكر ومعرفة؟

البيئة أمر أساسي في الكتابة؛ فقد تعتبر خلفية للشاعر ونقطة انبعاث الشعر، بما تحتوي عليه من ألسنةٍ للأمكنة والناس. وهذا أمر التفت إليه النقد الأدبي بكثير من مناهجه، حيث إن بنًى فكرية واجتماعية ناتجة عن الانتماء إلى البيئة تساعد في كشف شخصية الأديب. شخصياً، كثير من نتاجي الشعريّ وعلى الخصوص في مجموعتي الأخيرة هو وليد تلك البيئة الأم. ولا يمكن لشاعر أن يمتدّ بشعره بعيداً ما لم يتجذر جيداً في بيئته قبل أي شيء.

قصيدة النثر

كيف تُقيّم تجربة قصيدة النثر؟ وما هو موقفك منها نظراً إلى أنك شاعر قصيدة الوزن؟

على الرغم من بعض الملاحظات حول ظروف استيراد قصيدة النثر إلى نصّنا العربي، والتقصير في المعرفة الكافية بظروف نشأتها وتاريخ ميلادها الحقيقيّ، وعدم وضوح شروطها، إلا أنني أسجّل إعجابي الشديد بها، وبما يعالجه كتابها الحقيقيون من أفكار جديدة تماماً، وهم سبّاقون كثيراً في هذا المجال. حيث انفردوا في فضاء من الحرية بابتكار مفارقات وموضوعات جديدة للنصّ، منطلقة من قاعدة ثقافية واسعة، مع ما صاحب هذا من أدوات لغوية وتعبيرية متخفّفة من قيودٍ صدئة لم يُنفَض غبارها منذ مدة طويلة من الزمن. وهذا مفقود إلى حدّ ما في قصيدة الوزن؛ مردّ ذلك إلى قداسة النّظر إلى الإرث الشعري، والمراوحةُ في دائرة التقليد وإرضاءُ ما يظنّه البعض منهم «فضيلة» الوزن والقافية على حساب بناء نصّ جديد… غير أنّ ظهور تيار الحداثة خلخلَ بعض هذه الجدران الظالمة، لما يشتمل عليه من تغيُّر في طريقة التفكير، والتعامل مع موضوعات الحياة بأسلوب أحدث ورؤية أكثر انفتاحاً، وقابلية للتجدد والابتكار، والنظر إلى الآخر بعين الاختلاف البنّاء لا الخلاف.

لديك كتاب نثري بعنوان «أجنحة البيوت» وكتاب في السيرة بعنوان «شيخ القرى»، هل تتداخل شخصيتك كشاعر مع كتاباتك النثرية أم تضعها جانباً وتعتمد شخصية كاتب وباحث؟

في الحقيقة، تظلّ شخصية الشاعر طاغية حتى في كتابة النثر، سواء الأدبي منه أو النقدي أو التاريخي، لأنني أرى في كتابة النثر فضاءً يُغري بالبثّ والتكوين اللغوي الخالي من بعض قيود الشعر، وأرى فيه انزياحاً في اللغة كالانزياحات الشعرية، ولست أقصد هنا النثر بإطلاق، بل النثر المغسولُ بأمطار المجاز، المتكسر ضحكاً وضوءاً وفاكهةً على مائدة العين.

فزت ببعض الجوائز الشعرية؛ ما دور الجوائز في مسيرة الشاعر؟

الجوائز تعبير عن تقدير للشاعر وتجربته، هي حافز للمثابرة على الكتابة. وهي تدفعه، سواء في وعيه أو لاوعيه، إلى إنتاج النصّ الفريد الذي يستحق التنويه.

لديك ثقافة نقدية وفي علم النحو، إلى جانب فرادة التجارب الشعريّة والصوفيّة؛ كيف توظف هذه العناصر في شعرك؟

مع معرفتي المتواضعة بما ذكرتِ، أراه يدخل في باب الثقافة. أستثمر هذه العناصر في عملية الكتابة، فبعضها يعصم من أخطاء مباشرة أو متشابهة، وبعضها يرتقي بالتجربة الشعرية بعيداً من الانشغال بمسلّمات الكتابة.

هل ثمة قواسم مشتركة بين دواوينك الشعرية أم أن كل واحد مستقل عن الآخر من ناحيتي الظروف وطريقة التعبير؟

ظروف الكتابة متشابهة، لكن طريقة التعبير واللغة والأفكار طرأ عليها تغيير واضح بين ديوان وآخر. الديوان الأول «ما زلت أبحث عن وطن» (1998) كان فيه شيء من التقرير والمباشَرة، وطرح أسئلة وجودية تقليدية فوق تربة لم تكن، كما يفترض، صلبةً أو خصبة آنذاك كما في الديوان الثاني «مقامات ورَقِية» (2004) حيث صفا المشهد وظهر الصوت من الداخل، واقترنت كل قصيدة شعرية إلى حدّ ما بموقف أو وجهة نظر أو رأي للوجود وظواهره. فيما غلبت على الديوان الثالث «وجه زينب» (2009) قراءة وجدانية تأملية تأويلية للخالق وللنفس وللحبيبة. أما في الديوان الأخير «قناديل لحنين داكن» (2016) فأظنّ أن ضجيجاً غابراً خَفَتَ، واتجهتُ إلى الإشارة والإيجاز، وظلت الأسئلة مخيمة والتعجّب سيدَ النصوص.

التعليقات مغلقة.